منذ اليوم الأول , الذي أقررت فيه بأنه بداخلي العديد من الظلال الشاحبة , ظلال تسكني , ظلال تفسد حياتي , ظلال ترتديني كالعباءة و لا أنكرها يقيناً و اعتقاداً ,,
منذ اليوم الأول , الذي حدق بي ذلك الطفل الغريب , علمت بأنه رأى ما اخفيه من غضب و حزن و خوف و قلق .. علمت أنه رأى ذلك الشيطان السيء الذي يملكني ,,
منذ اليوم الأول , الذي حضنت فيه تلك المعلمة جسداً ناحلاً و فارغاً و دعتني لأكون ضفدعاً يجيد القفز على الضفاف كباقي الضفادع الأخرى ,,
لم تكن عيناي تسيلان كما الأن ,,
و لم يكن ليصبح الأمر سيئاً لولا تركه اياي , و رحيله لعالمٍ لا ابصره فيهما , عدت طفلاً وحيداً مجدداً و ابداً في عالمي الفارغ ..
" أنا اعجز عن النسيان , انا اعزف معزوفة تتلوها الشياطين كالأنغام "
انا عاجز عن النسيان ! , لم يكن علي دخول هذه القرية المحرمة , أنا لا أزال حائراً !؟ , اين الخلاص الأبدي و النسيان المطلق !؟
كنت أحدق بذلك القبر حين يزفر عويله و يشهقه صدري المثقوب , ما هذا ؟!
أنا حقاً لا أعلم , و لكن بداخلي سوء و أسئ عليه ..
هذا القبر .. كان لشخصٍ ما , لشخصٍ سيءٍ , لشخصٍ مهملٍ و متعجرفٍ , لشخصٍ مريضٍ و متوهمٍ , لشخص ٍحزينٍ !
كنت أحدق بذلك القبر ,,
و تلك المعزوفة تترنم بأذني كتعاويذ الشياطين التي تهمس بأذني قبل المنام , تلك المعزوفة لم تكن غريبة علي , هذه الكلمات , كانت تصدر مني في وقتٍ ما , وقتٌ لم اعرفه فيه نفسي , وقتٌ غبت فيه عن الإنسانية و مآسيها , وقتٌ فقدت فيه نفسي و أنا أحاول البحث عنها ..
هذه المعزوفة تصدر من جوف الغضب , من جوفي .. كالأنين تماماً !
و هي تترد جملٌ غير مفهومة , جملٌ تحتاج لحافة جرفٍ ألقي فيه هذه الجمل , جملٌ تحتاج لصدرٍ يتبناها , جملٌ لا اريد سماعها مطلقاً , جملٌ أهرب منها و تمسك بي ..
كنت أتتبع مصدر هذه المعزوفة , هذه النبرة , ليست غريبة علي ؟! , صوت شجيٌ , صوت شجنٌ , صوتٌ بائسٌ ,,
و على بعد غابة , أدعوها بغابة الضياع , تفصلني عن مصدر هذه المعزوفة ..
يجب علي , انا أرى مصدر هذه المعزوفة , يجب علي ايقافها !
يجب علي أن امر من خلال , غابة الضياع .. مجدداً ,,
خرجت من القرية المحرمة , متجهاً نحو غابة الضياع ,,
انا أعلم ما شأن هذه الغابة جيداً , في هذا المكان تترصد بك مخاوفك , و آلامك , و إن لم تكن جيداً بردعها ستسيطر على رشدك , و تصبح اسيراً لها , و لن ترى المخرج مطلقاً من هذا المكان .. لا أعلم كيف نجحت سابقاً بالمرور من خلالها !؟
تقدمت نحو غابة الضياع , و تغلغلت بداخلها , حتى غاب عني المدخل إليها , و عم الظلام , و إن كانت الشمس حق , لا تشرق إلا في هذا المكان ؟! , بعد وهلة , ادركت لما ادعوها بغابة الضياع , لأنني ضعت بداخلها , غيبت المهدى , اين السبيل ؟ , لم أكن أعلم ؟!
لا اعلم كيف نجحت سابقاً بالمرور من خلالها ؟ , لا أتذكر ذلك !؟
كان المكان مظلماً جداً , و الوحل فيه اسوداً كالحبر تماماً , و صوت تلك المعزوفة قد بهت و اختفى تماماً , كنت وحيداً !
حتى من شياطيني , انا وحيد !؟
أنا لا اريد ان أكون وحيداً !
انا لا اعلم السبيل للخروج من هنا !؟ , أنا في حيرة من أمري !؟
انا لا اريد ان أكون محتاراً !
جلست على جذع شجرة ضخمة , اظنها في منتصف هذه الغابة في غصنها حبل مربوط , و كأن احدهم شنق نفسه فيها ..
كنت مأسوراً بهذه الشجرة , لا أعلم ما شأنها , و لكنها و كأنها تتحدث إلي , هل أصبحت معتوهاً !؟
لا اعلم , و قفت و نظرت إليها , انظر للأغصان التي تحركها الرياح الخفيفة , رياحٌ تحمل بعضاً من ابيات تلك المعزوفة الشيطانية , و بغصن هذه الشجرة و ردة بيضاء , و كأنها وردة ياسمين ؟!
و من جوف هذه الشجرة العظيمة , أظنها تحدثت إلي , بصوت أمي " محمد ؟! " , فركت عياني , هل حقاً هذه الشجرة تحدثت إلي ؟! , حدقت بهذه الشجرة و كأنني ساذج , قالت الشجرة مجدداً " محمد ! " , ما هذا الهراء , و لكن لماذا علي ان اعجب من ذلك , ألم يتحدث إلي ذلك البدر الأبكم قبل قليل !؟ , قلت " نعم " , " ما الذي اتى بك إلى هنا مجدداً , أيها المغفل !؟ " , هاه ؟ , كنت أعلم انني مررت بهذه الغابة سابقاً ! , " لقد تهت مجدداً يا أماه , اضعت الطريق و المهدى ! " , لا اعلم لماذا دعوتها بأمي , أنا امي بشرية , و ابي بشري , و لكنني لم أكن كذلك , ردت الشجرة علي " مجدداً !؟ " , حاولت أن أقول نعم , و لكن كنت أجهش بالبكاء ؟ , و لا أعلم لماذا كنت أفعل ذلك , ما الذي يبكيك يا محمد , مما تخاف ؟ , ما الذي يجعلك تعيساً هكذا !؟ , قالت الشجرة " لا عليك , يا بني , فقط انظر لروحك و ستجد السبيل للخروج من هنا , انت تعلم ذلك اليس كذلك ؟ " , اعلم ماذا ؟ , لماذا هذه الألغاز و الأحاجي ؟! , كلا أنا لا اعلم السبيل , " اين السبيل يا اماه ؟! " قلت للشجرة , " بداخلك انسانٌ متوفٍ , قتلته أنت بيديك العارتين , استنزفت انسانيته , لشياطينك , لملكٍ زائلٍ و زائفٍ ؟! , انسانيتك محبوسةٌ لديه , في جرة يخفيها عنك , عليك أن تسترجع انسانيتك منه , عليك ان تحل نفسك منه , و لا تعد إلى هنا مجدداً , ارحل بعيداً نحو جزيرة النسيان , لعلك تجد الشفاء لروحك " قالت الشجرة , " و أين يكون هذا المغفل ؟ " قلت للشجرة , ضحكت الشجرة ساخرةً مني و قالت " لم تكن تدعوه بالمغفل سابقاً ؟! , و لكن أنت تدرك هذا جيداً , الطريق للخلاص من الجحيم مرٌ و شاق ! " لقد كنت اعلم هذه الكلمات , لم تكن مجرد كلمات , انها تنبثق من جوفٍ جُرِدَتْ منه الإنسانية , من جوف حُبِسَتْ عنه كل السبل , جوف اُغتُصِبَتْ منه الإنسانية , يجب علي ان أفعل شيئاً ما حيال كل هذا , تراجعت للخلف و نظرت لهذه الشجرة , و قلت لها " و اين اجده هذا الشخص !؟ " , قالت الشجرة " عند البداية و النهاية , و تتطهر مجدداً عند المذبح و المهد " , هاه ؟! , قلت للشجرة " ما معنى هذا ؟! " بصوت غاضب , " انت تعلم جيداً الذنب الذي اقترفته بحق نفسك , لا تسألني انا عنه ! " قالت الشجرة , الذنب الذي اقترفته أنا بحق نفسي ؟! , ماذا فعلت بنفسي ؟! , فجأة تلك الشجرة تقلصت حتى أصبحت جذراً يخرج من الأرض و يمتد بعيداً , امسكت بهذا الغصن و ظللت اتبعه , كنت أفكر حول ما قالته هذه الشجرة , بعد وهلة , ظهر نور يمتد من بعيداً , اتجهت نحوه حتى خرجت من هذه الغابة , و ودعتها ,,
" بداخلي العديد من الظلال .. الشاحبة "
كنت أبحث عن أجابه واحدة شافية , من يكون هذا الشخص ؟! , لماذا كل الأمور تعود إليه ؟ , من هذا اللعين !؟ , من هذا الثعلب المخادع ؟! , و لماذا ذاكرتي مفقودةٌ هكذا ؟! , و مع مضي بعض الوقت , ادركت أني في سبيل البحث عن هذه الإجابة خلقت لنفسي العديد من الأسئلة , سحقاً ! , و فور خروجي من غابة الضياع , اشرقت شمس الحق , اعمت بصيرتي , لم يكن بمقدوري الرؤية , أصبحت اعمىً , حاولت ابعد عيناي عن هذه الشمس , فنظرت للخلف , فأصبت بالدهشة ؟!
ليس لدي أي ظل !؟ , أحدهم ابتلع ظلي !؟ , أين ظلي ؟! , اريد ظلي !؟ , ماذا حصل لظلي ؟! , شمس الحق أظهرت أن لا ليس لي ظلٌ !
نظرت للأمام , رأيت منظراً حتماً ليس غريباً علي ؟! , هذا المنظر محفورٌ في ذهني , لسبب ما ؟! , كنت قد رأيت جرفاً , هذا الجرف ؟!
تقدمت نحو الجرف , و اشعر و كأنني قد مررت بهذه اللحظة سابقاً , سبق لي و إن فعلت هذا في ما مضى ؟! , كنت أشعر بالحزن , الخسارة , الفقدان .. و بكل تأكيد بالغضب !
انا أعلم جيداً ما هذا المكان , انه بوابة هذا العالم ؟!
و حين وصلت لحافة الجرف , نظرت للأسفل ,,
" أنت أنا و أنا أنت "
رأيت نهراً ساكناً كالمرآة تماماً , تطفو عليه بعض ورود الياسمين الذابلة , و شيء آخر , شيء يطفو من أعماق هذا النهر الساكن , كنت احدق بهذا الشيء , حتى وصل لسطح هذا النهر , انه !؟ , انه ! , انه شخص يشبهني طبق الأصل تماماً , انه أنا , بل هو أنا ؟! , ما هذا الهراء ؟!
حدقت بهذا الشخص , كان مغمض العينين , كنت أحدق به , كنت أبلع ريقي خوفاً كنت أرتعد منه , من يكون هذا الشخص , و لماذا جسدي يرتعد منه هكذا ؟! , فجأة تحدث هذا الشخص و قال " لقد اتيت أخيراً !؟ " , صوته كالرعد يثير القشعريرة , شعرت و كأن روحي ستنفصل عن جسدي , و كأن روحي تهرب منه ؟! , فتح هذا الشخص عيناه و قال " لقد اتيت اخيراً .. يا محمد " , شحذت عزمي و جرأتي , و قلت له " انت من تكون ؟!" , قهقه ذلك الشخص , كنت اشعر بالغرابة , لم أكن اعلم ما المضحك !؟ , نظر إلي هذا الشخص و قال " ألا تعلم حقاً أنا من أكون !؟ , هل نسيتني بهذه السرعة !؟ , ما الذي اشغلك عني ؟! " , هاه , من يكون هذا الشخص ؟! , لم اجد إجابة له فصمت , قال الشخص " لا عليك , الست صديقك المخلص ؟ , الست صديقك السرمدي ؟ , الست صديقك الخالد !؟ , هاه !! " , فجأة و كأن تلك المعزوفة تعزف في اذني بصوتٍ صاخبٍ , حاولت ان اسد اذني بيدي , و اغمضت عيناي , تلك المعزوفة كانت تقودني للجنون حتماً !!
فتحت عيناي , و لم أرى ذلك الشخص !؟ , اختفى على حين غرة , كنت أشعر بالحيرة , كنت ضعيفاً جداً , فجأة صوت من خلفي " أنت أنا و أنا أنت " , انتفض سائر جسدي , كنت في حالةٍ يرثى لها !
يتبع بنصٍ آخر ,,