الدخول بين الكتب دون تخطيط مسبق، يغمر المرء، فيغدو كالمترنّح
لا يدري أين يبدأ وأي قدميه يقدّم أولًا حتى يخطو، اليسرى أم اليمنى.

قلت: فلأبدأ بما هو بديهي؛ رفوف الكتب الدينية.

إنها مكتبة مسجد، وهذا الصنف هو أول ما يتبادر، وهو أيضا الصنف الذي
نريد إثبات أنه ليس الأوحد في مكتبات المساجد.



إنني أحب الشعراوي، وفي وقتٍ ما سأبدأ بقراءة تفسيره للقرآن الكريم إن شاء الله،
وقد سعدت لمّا رأيته موجودا هنا.
،
وأمّا الشعر فما لذ وطاب، ترى كتبه مصفوفةً من ديوان جميل بثينة والفرزدق، إلى كثير عزّة والأخطل، مرورا بالبحتري وحسّان بن ثابت، بالإضافة إلى الذي لن تكتمل مجموعة العشّاق دونه: قيس ليلى.




وهناك أيضا حاتم الطائي الذي لم أعرف أن له ديوانا من قبل.


ثم انتقلت إلى كتب اللغة، وإني أعلم أحدا لن يهتم بهذا الصنف –للأسف-
ولكن أنا أحب القراءة في علوم اللغة وهذا أحد الكتب التي في قائمتي:




"أساس البلاغة" للزمخشري، وهناك كتاب آخر أريده وهو "أسرار العربية" للثعالبي، وآخر اسمه "الفروق اللغوية" للعسكري، وآخر يُدعى لسان العرب للـ... حسنا، حسنا، سأتوقف.
،
وفي ركن في وسط المكتبة، استيقظ النَّهم النائم في أعماق نفسي، وسال لعابه،
وأمرني بالإسراع، إذ كانت رائحة شديدة الإغراء قد ملأت أنفه.

قلت: ما بك؟
قال: أولست ترى؟
قلت: ماذا؟
فأشار بعينين مجنونتين: هناك، هناك...
ما هو الـ "هناك" الذي أشار إليه النهم؟
إنه ركن يخص أدب الرحلات!

لم أذكر هذا هنا من قبل: إن أدب الرحلات أحد أقرب أصناف الأدب إلى نفسي،
وإني أحبه كثيرا، ولا عتب على النهم النائم إذ استيقظ فجأة.
ألقى النهم هذا الكتاب على الطاولة أمامي أولا، وقال: إليك:



"حول العالم في 200 يوم" لأنيس منصور.
قلت: هذا كتاب لم أقرأه بعد، وسعره المرتفع في معرض الكتاب حال دون اشترائي له،
بيد أني قرأت "أعجب الرحلات في التاريخ" للكاتب نفسه وقد كان جميلا، وكفانا به.

فامتعض وجه النهم، ونمت نبرته عن غضب، حين ألقى التالي أمامي وقال بشراهة: وهذا، وهذا:



قلت: أمّا هذا فقرأته، وهو رحلة ابن جبير الأندلسي، وبه شيء من الثقل
كما هو متوقع من أدب الرحلات القديم، ولكن ما أضافه إلى محصولي العلمي واللغوي،
كان ذا بال وقيمة.
فجحظت عينا النهم، حتى أوشكتا على الاندلاق من مقلتيهما، وقد كانتا تسطعان ببريق محموم مخيف، فتناول بسخط "رحلة ابن بطوطة"
وكتبًا أخرى عن رحلات في باريس واسطنبول وبلاد الإنجليز، لا أعرفها ولم أسمع بأصحابها من قبل، وأوشك على رميها أمامي ليجعلني أقرأها راغمًا، فقلت: حسبك! انظر هناك...



،
وحينما أبصرت كتب السير في رفوف سفلية، وسحبت أول كتاب منها،
حدث الخطب الذي جعل هذه الزيارة غريبة!

إنني ألوم جين على ما أصابني فهو الذي دفعني إلى الذهاب
إلى المكتبة في ذلكم اليوم، ولهذا هو يدين لي الآن بالكثير.
فما الذي حدث؟

وكتب السير هناك كثيرة، ويحتار المرء بأيّها يبدأ، وهذه بعض ما راق لي من العناوين العديدة:




ووجدت تيمور لنك، وعزّت بيجوفيتش، وسليمان القانوني جنبا إلى جنب على (رفّ) الحوار:



ومع استمرار الهطول الغزير في الخارج، وقرع الرعد المفزع،
انتقلت في الظلمة إلى الركن الذي يحبه الجميع؛ إنه ركن الروايات.
على جين أن يتوقف عن بعثرة كتبه في الأرجاء، وأرجو منه احترام نظام المكتبة
وإلا سوف تكون العواقب وخيمة... وأجل، إن هذا لتهديد:


وا أسفاه على كتب "ستيفن كنج"! ليس لها وجود في هذه المكتبة،
رغم أني لا أكترث لها في الحقيقة، ولكن في ضواحي بغداد ثمّة من يكترث:



وفي أجواء عاصفةٍ كالتي كنت فيها، كان من الملائم جدًا أن يظهر هذا الشيخ:




ورأيت خلفه رجلا مفتول الشاربين يمشي بسرعة ممسكا يد فتاة حلوة مغناجة، ميّادة القد، ذات قوام أهيف:



ثم إذا بهما يصعدان السفينة، ويمضيان في الإبحار بعيدا مع الشيخ، وسط العاصفة،
وعبثا ناديتهما محذرا، وإذ ذاك، كان الأوان قد فات.
ثم صلينا المغرب، ولم أرى في المسجد إلا آحادا من البشر،
وذلك لأن الناس حُبِسوا بالمطر، فما استطاعوا حضور الجماعة.

وارتجينا بعد الصلاة، أن يخف السيل، وتنقطع الزخّات القوية، وتمنيتُ أنا لو يهدأ الرعد.
ولمّا عدت إلى المكتبة، كانت الكهرباء قد عادت، إلا أن رجلا مثيرا للشبهات كان يقف في ناحية بعيدة،
وهو يرمقني بنظرات تعبر عن سخرية وتَعَالٍ، فاقتربت منه، وعرفته، فقلت: ماذا جاء بك؟

وتماما في الرف الأخير من ركن الروايات، في الأسفل عند الزاوية، كانت تقبع هذه الرواية:




وأنه لمن الغريب أن أجد هنا عددا من الروايات التي ذُكِرت مؤخرا في النقاش، كالشيخ والبحر،
وماجدولين، و"بلدي" لحمزاتوف التي ترونها على يمين الحرب والسلم.
،
توقف الرعد، وهدأت السماء، وبقي المطر خفيفا. وعلى صفحة البحر الرهو،
راحت سفينة مألوفة تقترب بهدوء، فاستبشر الناس وتدافعوا لاستقبالها عند المينة. فُذهلت للخطب
وتفاجأت بأنهم قد نجوا من العاصفة. إنها سفينة الشيخ وقد عادت سالمة.

نزل الشيخ فرِحًا جِذلاً لمناجزته البحر وعاصفته القوية، وخروجه منها منتصرًا
وتلاه، نزول الرجل المفتول الشاربين، بيد أنه كان هذه المرة دون فتاته تلك.


سألته مُلتهّفـا: أين ماجدولين؟
أجاب: هي الآن في بلادها وبين أهلها، تحت ظلال الزيزفون.

فعلمت أن مهمته كانت إيصالها، فسكتُّ لِمَا كان بي من حسرة.

قال هو: ماذا قدم المسلمون للعالم...
قلت: نعم؟
قال في إصرار: ماذا قدم المسلمون للعالم...


مكثتُ واجمًا لا أفهم سؤاله، وسبب طرحه في غير مناسبته، فلم يلبث أن نزل بحّارة أشداء
من السفينة المنهوكة، يحملون صندوقا خشبيًّا كبيرا، بأذرعهم القوية المشدودة، ووضعوه أمامه،
ففتحه، وقال: لم تكن رحلتنا في غير طائل، ولك أن تنظر بأي الكنوز رجعنا.



قال من جديد: ماذا قدم المسلمون للعالم... هذا سلاحٌ من أسلحة الاعتزاز والاستقلال، والثقة بالنفس، والتطلع إلى المستقبل،
وهو لمحو الأمية الفكرية الفاجعة في شباب العرب، المغتر بالغرب، وتاريخ الغرب، وثقافة الغرب.


فأدركتُ أنه يكرر كلمة الغرب لمغزى يريد لي أن أفهمه.
قلت: فهمت.

فترك الصندوق بين يدي، ثم مضى يسير بعيدا عن مينة البحر،
فكانت تلك المرة الأخيرة التي رأيت فيها مصطفى لطفي المنفلوطي.

أمّا الصندوق، فقد حوى كتبا متنوعة قيّمة:

تاريخ ابن خلدون




العقد الفريد




مقامات الحريري




ذكريات علي الطنطاوي (وهو أحد المتأثرين بالرافعي )



----------------------------------------------------
إن صدري ينشرح للقراءة أكثر ما ينشرح، في أوقات نزول المطر، ولسبب عجيب أجد طعما حلوا في قراءة تراث العرب وأخبارهم في أوقات كهذه. وحينما انقطعت الكهرباء، برزت طاولة تحت بقعة ضوء في زاوية المكتبة، وكانت كأنما تدعوني إلى الجلوس، وصادف أن الكتاب المناسب لوقت المطر كان بين يدي، فجلست إليها، وقرأت شيئا من "قصص العرب" ووابل المطر ووشوشة الرعد في الخارج هما كل ما أسمع، فيا له من جو يقرأ المرء فيه!




لقد كانت مشاركة طويلة، وربما لو أني اختصرتها لكان أفضل، غير أني حاولت تخفيف ثقلها، وتغيير جو السرد المعتاد، بتلكم القصص والحوارات خلالها، وأظن أني هذه المرة، قد بالغت فيها، فنلتمس العذر لو أصابكم الممل.
حسنا، هذا كان الجزء الثالث من رباعية المكتبات. آمل به أن الفكرة السائدة عن مكتبات المساجد، قد زالت الآن بعد مشاركتين عنها، فعليكم بزيارتها. بقي جزء أخير، وسيكون عن مكتبة مختلفة تماما، وله غرضٌ آخر، وسنضعه في المستقبل –البعيد- إن شاء الله تعالى.



إلى اللقـ... مهلًا!
ما هذا يا جين؟ ألم أقل: لا تبعثر كتبك في المكتبة؟




لقد أعذر من أنذر ويبدو أن السيف سيسبق العذل، ولسوف أطلق النهم عليك،
فهو انتهى لتوه من قراءة كتاب الأساطير ذاك، ولعابه لا يزال في سيلان!
.
.
.